أعمى يلقننا درسا لا ننساه
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشغولاً بإقناع صناديد قريش برسالة الإسلام ، وهم قادة المجتمع ، وقد دعا كثيراً: " اللهم أعزّ الإسلام بأحد العمرين " ، وهما أبوجهل وعمر الفاروق ، وكان أبوجهل من ضمن القيادات القرشية التي يحاول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إقناعها بالإسلام ، وفي لحظةِ اجتماعٍ مع مجموعة من كبار الزعماء جاء ابن أم مكتوم وهو رجل ضعيف وأعمى ومن عامة قريش ، فلم يلتفت له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، واستمر في التركيز على هدفه الدعوي ، فأنزل الله تعالى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ) ففي هذه الآيات عتاب للنبي الكريم ؛ لأنه لم يلقي لابن أم مكتوم بالاً وعمل خلاف الأولى ، فعاتبه ربه به ، وقال له: (وما يدريك لعله يزكى) وكان ابن أم مكتوم يريد أن يسأل بعض الأسئلة للاستزادة بالعلم .
ولو تأملنا في المستقبل بعد هذه الحادثة كيف وصل ابن أم مكتوم إلى مستويات قيادية عليا في العهد النبوي ، على الرغم من أنه كان من عامة الناس بمكة وليس من الوجهاء ، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج للغزوات ينيب عنه ابن أم مكتوم على المدينة ، فيكون أميراً عليها ، على النساء والأطفال والمتخلفين من أهل الأعذار .
فمن يتأمل الموقف يلاحظ معنى قول الله تعالى: (وما يدريك لعله يزكى) وفعلاً هو تزكى وصار قائداً ، بل ونائباً للنبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وتمر الأيام ، وفي معركة القادسية في أيام عمر الفاروق ، يقف ابن أم مكتوم وهو كبير بالسن ، فيخاطب الصحابة وصغار التابعين: " أنا كبير بالسن وأعمى ، فاجعلوني بينكم أحمل الراية ، فلا أشاهد الفيلة وقوة الفُرْس فأحميكم! " ، وهذا ما حصل فانه أمسك الراية وكثرت السهام عليه ، وظل ماسكاً لها ولم تسقط إلى أن انتصر الجيش الإسلامي ، ومات شهيداً ـ رضي الله عنه ـ، وكلنا يعرف أن سقوط الراية أول الهزيمة النفسية للجيش ، ومن يمسك الراية هو القائد القوي ، فنتأمل مرة أخرى: (وما يدريك لعله يزكى) .
وقد وصفه القرآن بأنه أعمي ، وليس هذا بتنقيصٍ من قدره ، فالعمى ليس عيباً ؛ ولكن الأعمى هو أعمى البصيرة وليس أعمى البصر ، فهو درسٌ للنبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنه درسٌ للأمة كلها بعدم الالتفات للشكل الخارجي ، والاهتمام بالجوهر ، وكذلك عدم التقليل من الضعفاء من الناس أبداً.